هي مجموعة قصائد غنائيه كتبها الشاعر فيلهلم مولر مكونه من ٢٤ قصيده، ألّفها فرانز شوبرت لتُغنى بصوت تينور مع عزف بيانو.(رحلة الشتاء) تحكي بتجرّد من التفاصيل ٢٤ فصلاً عن قصة رجل غريب أحب فتاة في القرية التي يسكنها، الفتاه لم تقابله بنفس المشاعر فخابت آماله بالإرتباط بها. قرر بتهوّر الرحيل ليلاً من دون تحديد الوجهه ولاتجهيز وسيلة السفر في برد الشتاء القاسي فرحل مشياً على قدميه. تفاصيل القصه مبهمه واعتبر ذلك كأحد جمالياتها فهي بالنهاية مونولج لشخصية واحده (الرحال) نفهم من خلاله أجزاء من القصه ونعيش معه كل التجارب الشخصية التي يخوضها رحال وحيد وبائس.

في الوقت الذي كان كان شوبرت منهمكاً بكتابتها كان أصدقاءه يجدونه مغتماً ومنشغل البال، وعندما سأله صديقه شباون عن مايشغله أجاب شوبرت: ”قريباً، ستسمع وتفهم” بعد ذلك بأيام طلب شوبرت من شباون القدوم للاستماع :”تعال اليوم إلى منزل شوبر، وسأغني لكم مجموعة أغانٍ مذهله، أتوق لمعرفة آرائكم عنها. لقد كلفتني جهداً أكبر من أي أغنياتٍ أخرى”

فغنى شوبرت لهم مجموعة أغان رحلة الشتاء كاملة بصوتٍ مشبع بالشاعريه، كما يصف شباون، وكان المستمعون مذهولين تماماً باللون النغمي الحزين والمُعتم لهذه الأغنيات. وبعد انتهاءه من الغناء أبدى شوبر صديقه رأيه بأن أغنية واحده قد لاقت استحسانه فكان رد شوبرت له : “ لقد أحببت تلك الأغنيات أكثر من أي أغنيات أخرى، وستحبهم جميعهم كذلك مثلي.”

قد بدأ شوبرت كتابتها عام 1827 الوقت الذي كان يقاسي فيه أعراض مرض السفلس من الدرجة المتقدمه وأصبح موقناً بنهايته المحتومه، في ظروف كهذه اختار أن يكتب (رحلة الشتاء) في رحلته القاسيه مع مرضه كقسوه برد الشتاء.

الشاعر مولر كتب هذه القصائد (أو الأغاني كما يسميها) بهدف أن تُغنى، وقد كتب لها عدد من الموسيقيين ألحاناً متعدده، ولكن ماكتبه شوبرت من فهم عميق للصوره الفنيه وقدرة مُبهره في أعادة خلقها بالموسيقى وإيصالها للمستمع جعل من هذا العمل الأكثر شهرة وانتشاراً، المؤسف أن مولر لم يكن على علم بما كتبه شوبرت لقصائده.

عند استماعي لرحلة الشتاء أول مره، ذُهلت بكمية المشاعر التي عشتها فيها، كانت مشاعر مبهمه لأن الترجمة لم تكن متوفره دائماً، فعزمت على ترجمتها للعربيه بهدف استكشافي الخاص بدايةً، وجدت أن ترجمتها من لغتها الأصليه (الألمانيه) أجود وأكثر شاعرية، مع انعدام تجربتي بالترجمه وترجمة الشعر خصوصاً، لذلك أرحب بأي اقتراح يجعل من أغاني رحلة الشتاء صورة أجمل. بمصادفة البحث وجدت إعلان حفل لأداء هذا العمل من تنظيم هيئة أبوظبي للسياحه في مايو السابق، كان أداء الغناء من قِبل المغني ماتيوس جورن المميز بصوته الغليظ، بالنسبة لي؛ كان حضور الأداء قد قرّبني أكثر من تجربة الرحال خصوصاً مع وجود ترجمة للعربيه مُعدة من قِبل الهيئه (تختلف عن ترجمتي) وأُلقيت محاضره ثريه قبل الحفل عن العمل وعن شوبرت وعن حركة الرومانتيك في ألمانيا.

Processed with VSCOcam with p5 preset

Matthias Goerne: Winter Journey, May 16 2016, Abu Dhabi: Manarat Al-Saadiyat

شوبرت كتب نسختين للعمل بتغيير المفاتيح النغميه التي كتبت بها الأغنيات لتناسب اختلاف الطبقات الصوتيه للمغنين، في هذه التدوينه استخدمت النسخه الأولى والتي قد تختلف مع التسجيل المرفق.

١.ليله سعيدة :

استفتح فيلهلم مولر قصائد رحلة الشتاء ب ليلة سعيدة، كلمات القصيدة تختصر في أبياتها الأولى قصة الرحاله بالكامل، كان من الواضح انه ليس من اهل تلك البلده، وفي شهر مايو كان واقعاً بحب فتاه تعيش هناك ويرغب بالزواج منها، لم تنجح تلك العلاقه لسبب ما لذلك أصبح العالم باهتاً في نظره، فعزم على الرحيل مبتعداً عن المكان ولكن قبل رحيله خفية بالليل ودّع الفتاة وهي نائمه بكتابة “ليلة سعيدة” على بابها.

Screen Shot 2016-07-01 at 9.25.24 AM

عند أول استماع للأغنيه نؤخذ بفكرة المشي والخطوات الدؤوبه التي خلقها شوبرت في كوردات مقدِمة الأغنيه التي ابتدأها على مفتاح D ماينر وكتب السرعه: “ Mässig, in gehender Bewegung أي: معتدل، في حركة مستمره”  كالخطوات التي يخطوها الرحال بقدميه، ومن بين تلك الخطوات استخدم شوبرت بتكرار كورد الديميشند الناشز والحاد ليُمثل الألم الحاد الذي يعانيه جراء خسارته لحبه.

عند غناءه الأبيات الأولى: “الفتاة تحكي عن الحب…والأم أكثر، عن الزواج “ غيّر شوبرت الهارموني المصاحب لتلك الكلمات إلى مفتاح F ميجر السعيد واخفى صوت الكورد الناشز ليجعل المستمع يعيش تلك الفكرة السعيده والآمله بنجاح علاقة الحب. وما إن انتهى من تلك الكلمات حتى تحوّل المفتاح إلى G ماينر الحزين ليغني “ أصبح العالم باهتاً الآن…والطريق أخفاه الثلج” و كرر هذه الفكره عند نهاية كل جزء من القصيده.

إلا عندما غنى “ لن أنغص عليكِ أحلامك…بل لا أجرؤ على أن أقلق راحتك” خلق شوبرت جواً يوحي بالهدوء والطمأنينه التي يشعر بها النائم بخفض الصوت إلى بيانيسمو وجعل السرعه أبطأ وتغيير المفتاح إلى D ميجر هادئ.

٢.طاحونة الرياح:

يحاول شوبرت عند كتابته لمقدمة لهذه الأغنيه أن يصوّر صوت صرير الطاحونه الضخمه عند دورانها، التي يشاهدها الرحال من مسافه بعيده وهو غاضب مما حدث له ومشتكياً عدم اكتراث عائلة الفتاه بحزنه، تلك اشاره واضحه بضرورة رحيله، الأغنيه كتبت على مفتاح A ماينر ويتضح فيها الاضطراب وعدم الاتساق في الريثم الناتج عن الغضب.

٣.الدموع المتجمدة:

Screen Shot 2016-07-29 at 5.42.53 PM

تصوّر هذه الأغنيه المكتوبه على مفتاح D ماينر، فشل الرحال في محاولة قمع مشاعره ليتفاجأ بدموعه المتجمده تتساقط منه، وعندها يتسائل الرحال محادثاً دموعه: “ أأصبحت فاترة هكذا؟”  كتب شوبرت ذلك المقطع بأخفض مدى صوتي للمغني ليصوّر بذلك الصوت الداخلي لمن يحادث نفسه، الكوردات المكتوبة بتكنيك الستكاتو في مقدمة الأغنية توحي بتساقط قطرات على الأرض ، والنوته الخامسه التي تعزف طويلا دون تغيير وبشكل واضح للمستمع تجعلنا نشعر بالتجمد.

٤.جمود:

ابتدأت هذه الأغنيه بمقدمه بيانو متوتره ومندفعه مكتوبة على مفتاح C ماينر، يتضح سبب التوتر عندما يبدأ الغناء؛ إنه لم يرحل بعد، واخذ الشوق منه مأخذاً كبيراً حتى ذهب للبحث عن آثار خطواتها في المرج المغطى بالثلج، يميز هذه الأغنيه تمازج الأدوار في التعبير اللحني بين البيانو المصاحب وصوت المغني؛ ففي بعض المقاطع التي يغني فيها المغني لحناً يتبعه البيانو بنفس اللحن كحوار متبادل.

عند استماعنا للبيت: “أين ذهبت الزهور؟…أين ذهب العشب الأخضر؟ “ نجد أن شوبرت غيّر المفتاح إلى A ميجر ليصبغ مخيلة المستمع بصورة الربيع الايجابيه، ومن ثم عاد المفتاح الماينر الاول C ماينر عند غناءه “ الزهور قد ماتت…والعشب أصبح باهتاً “ وليؤكد على الصوره السلبيه في هذا المقطع كتبه تحديداً C ديميشند الذي يعطي انطباعاً بالحدة والنشوز. وعند وصولنا للمقطع الأخير “ كأنما صار قلبي ميتاً*…وتخللت البرودة صورتها فيه“ نجد صورة تعبيريه بديعه يصور فيها الشاعر ثقل او تجمد القلب حينما يواجه المرء ألماً عاطفياً جسيماً، تلك البروده تسللت الى عمق قلبه وصارت صورتها التي بداخله متجمده، بهذه الحاله سيكون من الصعب أن ينساها إلا حين يدفئ قلبه وتذوب الصوره.

* قام شوبرت بتغيير كلمة بارداً في القصيدة الأصليه إلى كلمة ميتاً.

٥.شجرة الزيزفون:

لشجره الزيزفون مكانة مهمه في الفلكلور الأوربي وبالأخص الألماني، نجدها في الأعمال الأدبيه لچوته، شيلر وبكثير من الأعمال الفنية الرومانتيكيه، والذي ساهم بجعل هذه الأغنيه الأكثر شهره من بين أعمال شوبرت الغنائية، بالإضافه إلى أن ألحانها قريبه في تركيبتها من الألحان الفلكلوريه البسيطه. عند الاستماع لمقدمتها نجد تشابه في تركيبة لحن المقدمه للأغنيه السابقه، ولكن هذه المره ستكون مكتوبة على مفتاح E ميجر الايجابي، يغلب على هذه الأغنيه مشاعر السكون والرضا باستحضار ذكريات محبوبه والإطمئنان بوجود مكان آمن يلتجئ إليه تحت شجرة الزيزفون، ولكن الرحال مع ذلك قرر الرحيل والابتعاد بعد أن هبت عاصفة صوّرها شوبرت بزيادة سرعة العزف وتوتره وبوضع علامة فورتيه ليعزفها العازف بقوه:

Screen Shot 2016-07-02 at 12.43.47 PM

وبعد ذلك يعود المفتاح الأصلي للأغنيه E ميجر بعودة صوت نداء الشجره بالرغم من ابتعاده عن المكان، بدأ الصوت منخفض جدا PPP مصوراً لبُعد صوت المناداه ثم ارتفع تدريجياً:

Screen Shot 2016-07-03 at 10.38.26 AM

٦.مياه الغدير:

ها قد بدأ الترحال ودموعه تتساقط على الثلج، يشعر بالوحده ولا أحد سوى الثلج يتحدث معه ويوصيه حين يأتي الربيع ويذوب أن يتجه بدموعه التي اندمجت فيه إلى بيت الفتاه التي يحبها.

Screen Shot 2016-07-25 at 5.46.20 PM

كتبت هذه الأغنيه على مفتاح F# ماينر، وفي مقدمتها استخدم شوبرت النوتة السابعه الاكثر حده ونشازا (F) لتستقر عليها النوته الخامسه قبلها لتظل معلقة وغير مستقره، واستقرارها يكون بالنوتة F# التي هي النوته الرئيسية الأولى، هكذا أراد شوبرت أن يُذكرنا بجرح الرحال الذي لم يشفى بعد.

٧.عند النهر:

أقتطع الرحال طريقه بجانب النهر الذي وجده متجمداً ولم يعد بإمكانه توديع الرحال بصوت خرير ماءه، صوّر شوبرت النهر المتجمد بكوردات متقطعه وفاتره معزوفة على البيانو مكتوبة على مفتاح E ماينر:

Screen Shot 2016-07-03 at 1.07.25 PM

 حتى غير شوبرت (البارع في قلب المشاعر التي يريد ايصالها للمستمع بتغيير ذكي بين الميجر والماينر)  المفتاح لميجر E عند الغناء: “نقشت على سطحك… بحجر حاد “ ، وعند وصوله للمقطع : “أيا قلبي، ألا ترى صورتك…في ذلك النهر المتجّمد” أعاد نفس المفتاح الماينر ولكنه أحدث تغييراً أخر؛ أصبحت الكوردات الجامده متحركه وهائجه كالماء الجاري:

Screen Shot 2016-07-03 at 1.10.46 PM

٨.نظرة للوراء:

برغم قدميه المرهقتين إلا أنه لا يريد التوقف للحظه حتى يبتعد عن تلك البلدة التي رحل عنها، معبراً عن رغبته في النسيان عاجلاً، من الاستماع لمقدمة البيانو المكتوبه على مفتاح G ماينر نستطيع أن نشعر باندفاع الرحال واجبار نفسه على الاستعجال بالمشي برغم الصعوبات، وعندما يبدأ الغناء يصبح البيانو مردداً لصدى الكلمات الأخيره التي غُنيت، وحين يهدأ بغناء الكلمات : “كم كان مختلفاً ترحيبك بي…أيتها البلدة المتقلبه !” يتحول المفتاح إلى G ميجر مصوراً الذكريات الجميله التي كانت.

٩.أطياف الليل:

قد غربت الشمس وحل الليل و مازال الرحال يتابع رحلته بهدوء، عجيب كيف صوّر شوبرت التعب والانهاك الذي أصاب الرحال في أول النوتات التي عزفها البيانو :

Screen Shot 2016-07-03 at 3.42.51 PM

في المازوره الأولى والثانيه نوتتان مميزتان من المرجح أن شوبرت كان يقصد بهما نَفس الرحال المتعب وتخبطه في الطريق، يغلب على الأغنية المكتوبه على B ماينر جو من الغموض والفنتازيا، وقفات الصمت العديده التي تصوّر توقف الرحال متعباً وتتبعه للأطياف المضيئه حوله في ظلمة الليل، من كلمات القصيده نستطيع أن نشعر بتصالحه مع ألمه في غناءه : “ فكل نهرٍ سيجد بحره…وكل حزنٍ سيجد قبره”

١٠. ارتياح:

Screen Shot 2016-07-03 at 4.48.05 PM

مقدمة هذه الأغنيه تجسد النضال للاستمرار، الرحال متعب جدا ولايستطيع أن يقف والا فسيتجمد في العاصفه الثلجيه، مثّل شوبرت الخطوات المتعبه بسلسلة من الكوردات: بعد ابتداءه بالمفتاح الذي كتبت فيه الأغنيه D ماينر، ثم كورد D اوچمنتد السابع الذي أعطى شعوراً بالتقدم أو التمدد، ثم يليله الكورد الرابع في السلّم G ميجر الذي قلّص شعور التمدد، ثم G ماينر، D ميجر، D ماينر و أخيراً ختم هذا التسلسل بالكورد الخامس A واختار شوبرت أن يكون ميجر بدلاً من ماينر، الأغنيه بشكل عام تتبدل بين علو الصوت (الفورتيه) وانخفاضه (بيانيسمو) وجعل شوبرت المفتاح ثابتاً على D ماينر برغم استخدامه لعدد من النوتات الخارجه عن هذا المفتاح.

١١. حلم الربيع:

تبدأ هذه الأغنية بمقدمة مبهجه يليها تبادل بين شخصيتين متناقضتين، يُبدل شوبرت بينهما بشكل مفاجئ ليصور التناقضات بين الحلم والواقع.

خلق المقدمة المرحه كالتالي: كتبها على مفتاح A ميجر ووصف السرعة ب “etwas bewegt” أي مُتحرك قليلاً وخفض صوت العزف ليكون بيانيسمو، وكتب لها ريثماً راقصاً 8/6، وجعل بعض النوتات مكتوبة بتكنيك ستكاتو (ضربات منفصله وسريعه)، وأيضاً القفزه المفاجئه باللحن من E إلى نوتة C# السادسه التي تليها، والزخرفة الراقصه للحن، بالإضافة إلى الابجيتورا (appoggiatura) في المازوره الثالثه التي تعطي شعوراً بالشد ثم الرخي، والتي تكتب عادة برفع نوتة من نوتات الكورد درجة واحده لتكون ناشزه ثم بعد الكورد تُعزف النوته الصحيحه؛ مثلا: في المازورة الثالثه كُتب كورد F# ماينر الذي تكونه النوتات ( F#,A, C#) وبكتابة ابجيتورا للكورد يصبح (F#, B,C#) رفعت A بدرجة إلى B فيصبح الكورد ناشزاً (الشد) حتى يُحل النشوز بكتابة A بعده مباشرة (الرخي):

Screen Shot 2016-07-03 at 5.49.12 PM

.

الشخصية الأولى: سوداويه، مفزعه بالصراخ وباردة كالشتاء، كتبها شوبرت على المفتاح الخامس E ولكنه جعله ماينر بدلاً من ميجر، وصف السرعة ب “schnell” أي سريع، رفع صوت العزف ليكون فورتيه، وكوّن اللحن من نوتتين جامدتين، نوتة النوار وتليها نوته اقصر الكروش، وهكذا تتكرر كالضرب والرفع المستمر:

Screen Shot 2016-07-03 at 6.08.20 PM

.

 الشخصية الثانية: مرحه، مشرقة وسعيدة بالربيع، كتبها شوبرت على المفتاح الأول A ميجر، ووصف السرعة ب “langsam” أي بطيئ، وبصوت عزف منخفض (بيانيسمو) يعزف اللحن المكوّن من نوتات كروش قصيره تتنازل برويه:

Screen Shot 2016-07-04 at 5.49.47 PM

وعند الخاتمة التي من المفترض أن تكون مكتوبة بنفس المفتاح الذي ابتدأت به (A ميجر)، شوبرت كتبها A ماينر وذلك للإجابة سلبياً على تساؤل الرحال : “ متى ستَخضرُ تلك الأغصان المرسومه؟…متى سأحمل حبيبتي بين يدي؟ “ وكأن استحالة نضوج الأغصان المرسومة هو كإستحالة إلتقاءه بحبيبته.

١٢. وحده :

لا أحد هنا لتشعر بحزنه، لا أحد هنا لتفهم فرحه، الناس يتخيلون أنهم يستطيعون التعمق في الآخرين، ولكن الحقيقه انهم يعبرون بسطحيه واحد تلو الآخر. تعيس الذي يعي ذلك!

* من رسائل شوبرت في مارش ٢٤، ١٨٢٤م

الأغنية كتبت على D ماينر ليختم شوبرت النصف الأول من العمل معتقداً أنه مكوّن من ١٢ قصيده فقط ولكنه اكتشف لاحقاً انه مولر نشر لاحقاً ١٢ عشر قصيده أخرى لاحقاً لتُكمل ٢٤ قصيده. مع اكتشاف مايكتبه شوبرت في مقدمات أغنياته، أجد قدرته العجيبه في خلق أي نوع من المشاعر في مازورات معدوده (٤ إلى ٦) وفيها يجعل المستمع يعيش تجربة حقيقه لتلك المشاعر. تلك هي العبقرية. في هذه الأغنية صوّر شوبرت وحدة الرحال وثقل خطواته بجعل الريثم ٢/٤ وبنوتتين متكررتين معزوفتان بتكنيك الستكاتو حتى يمثل خطوتي الرحال، الخطوة الأولى وتليها الخطوة الثانية بتثاقل، استخدم بكثره نوتات السكون ليطغى الصمت الوحدوي عليها:

Screen Shot 2016-07-05 at 9.06.17 AM

في المقطع الأخير نجد تناقضات بين معنى الكلمات المغناه ولحن البيانو خلفها، فعند غناءه : “ آه، إن الهواء ساكن جداً !…آه، والعالم مشرقٌ جداً !” كتب شوبرت للبيانو لحناً لايمت بالسكون والشروق شيئاً، فالبيانو يهيج كرعد خاطف في ظلمة الغيم واهتياج الرياح خلق ذلك بتكنيك التريميلو مكتوباً على كورد F ديمينشند السابع و معزوفاً بصوت عالٍ فورتيه يرتفع تدريجياً بالكريشيندو:

Screen Shot 2016-07-05 at 9.31.31 AM

وانتهت هذه الأغنيه بنصف خاتمه غير مكتمله (Imperfect Cadence) بكورد خامس مُعلق وغير مُسوى.

١٣. ساعي البريد:

لم يتردد شوبرت في إكمال قصائد رحلة الشتاء ١٢ المتبقيه ليكمل بذلك العمل ويصبح ٢٤ قصيدة. هكذا يمكننا أن نفهم اللحن السعيد الذي بدأ به شوبرت أغنية ساعي البريد لتمثل النية لفتح صفحة جديده مشرقه للنصف الباقي من الرحلة، الأغنية مكتوبة على مفتاح E♭. ميجر ونستطيع أن نستمع لصوت بوق ساعي البريد من أول المازورات :

Screen Shot 2016-07-05 at 12.07.54 PM

١٤. الرأس الأشيب:

Screen Shot 2016-07-05 at 2.21.01 PM

لمقدمة هذه الأغنيه صوتٌ مختلف، ففيها ملامح من الفاجعه واليأس المُطبق، الأغنيه كُتبت بمفتاح C ماينر ولكن اللحن والهارموني التابع له يأخذنا في متاهه معقدة من المشاعر، لحن البيانو يبدأ وينتهي عند نوتة C التي تتوسط البيانو ويصعد بقفزات متواليه وتغيير مبهم للهارموني من C ماينر، Gميجر، Dماينر بثبات نوتة C المنخفضه في كل كورد حتى عاد للمفتاح الأصلي وختم اللحن. ولكن القفزه الأكبر في اللحن والتي أعطت تأثير الحدة الشاعريه كانت في المازورة الثالثة؛عندما انتقل من نوتة D إلى ♭A أعلاها باستخدام مسافة الاوجمنتد الرابع (Augmented fourth ) والذي يعتبر أحد أنواع النغمة الثلاثيه (tritone) التي لها معنى شيطاني مرتبط بالعوالم السفلى قديما في موسيقى العصور الوسطى . الأغنيه مليئه بالنوتات المتنازله للأسفل التي تعبر بشكل واضح عن اليأس، حتى وصل إلى أخفض نوته عند غناءه : “فكم سيطول بُعدي عن القبر!”

ويختم شوبرت كلمات الأغنيه بختمه متكامله، ولكن البيانو بعد ذلك عزف لحنه وختمه بنوع آخر من الخاتمات يستخدم عند غناء المنمنمات الدينيه في موسيقى العصور الوسطى عند غناء : “آمين” وذلك باستخدام الكورد الرابع ثم يليه الكورد الأول في السلم.

١٥. الغراب:

Screen Shot 2016-07-08 at 8.26.33 AM

ذِكر الموت والغراب يجعل من هذه الأغنيه صورة سوداوية، نجدها مكتوبة على مفتاح C ماينر ويبدأ اللحن بنوتة C العاليه ممايعطي انطباعاً ب “ شيء ما يحوم فوق رأسي”  ولكن النوتات الدخيلة على السلم تجعلنا نشعر بجو من الشك والريبه وربما الخوف، الأغنية مليئه بألوان من التحويلات النغميه وهي ليست ثابته على مفتاح C ماينر. عندما تصل الأغنية لنقطة الذوره في كلمة القبر (Grabe) والتي كتبت أولى حروفها بالكورد الخامس من سلم C والذي من المفترض تسويته بكورد C ماينر إلا أن شوبرت اختار أن يسويه بأكثر كورد ناشز عن C وهو الكورد السابع ♭B بالاضافه إلى انه مكتوب بشكل الديمنشد.

١٦. الأمل الأخير:

و كان بالإمكان وصف موسيقى شوبرت بميزة واحده، فستكون: قدرته المبهره على صنع مشهد متكامل بكل تفاصيله من الموسيقى فقط. هذه الأغنيه هي أحد الأمثله، تبدأ بانتقالات متفرقه للنوتات، والمفتاح الذي كُتبت عليه ليس واضحاً بعد وذلك يصوّر انتقال نظرات الرحال وتحركها من شجره لشجره وعند ثباتها على غصن واحد ثبت بذلك الاتجاه الهارموني وأصبح مفتاح ♭E ظاهراً. عند غناءه : “ارتعبت، وأرتجفت ماأمكنني“ يمكننا الاستماع إلى توتره ورعبه من سقوط الغصن وذلك باستخدام شوبرت لتكنيك التريميلو ممثلاً بذلك الرجفه، واستخدم كذلك النوتات المنخفضه المتنازله لتمثيل مشهد سقوط الغصن والرحال كلاهما على الأرض:

Screen Shot 2016-07-08 at 10.26.56 AM

وختم شوبرت هذه الأغنيه بنحيبٍ مؤثر للرحال على سقوط آخر آماله.

١٧. في القرية:

Screen Shot 2016-07-08 at 10.45.31 AM

هل لاحظتم صوت شخير أهل القرية النيام في مقدمة البيانو؟ نعم حتى الشخير يمكن لشوبرت أن يصوّره. هذه الأغنيه كُتبت على مفتاح D ميجر السعيد أخيراً، وفيها نبرة خطاب وتنظير؛ فالرحال قد وصل ليلاً لقرية وجد أهلها يغطون بنوم عميق مستمتعين بأحلامهم السعيده، الرحال هنا أصبح ينبذ الأحلام الغير واقعيه والتي لاتزيده سوى بخيبات الأمل. عند المقطع الثاني من القصيده:” جيد إذاً، قد أخذتم نصيبكم من المتعة.. والأمل الذي تفتقدونه…ستجدونه لاحقاً على وسائدكم” يعزز شوبرت أسلوب المخاطبه بتكرار مستمر لنوتة واحده وكأنه يشير بإصبعه إلى أهل القرية.

١٨. صباح عاصف:

Screen Shot 2016-07-08 at 12.04.08 PM

يبدو أن الرحال لم يتصالح بعد مع آلامه، فالحزن البائس قد تحوّل الآن إلى نبرة غضب ثائره في هذه الأغنيه المكتوبة بمفتاح D ماينر بالرغم من أن كلماتها تصف صباحاً هادئاً وجميلاً، سرعة العزف المكتوبة “ziemlich geschwind, doch kräftig” أي: سريع إلى حد ما، وبقوه. بالإضافة إلى علو الصوت المفاجئ في العزف (سفورتساندو sfz) وكتابة بعض النوتات بتكنيك الستكاتو، كل ذلك يوحي بتحول شخصية الرحال.

١٩. الأوهام:

كُتبت الأغنية على مفتاح E ميجر ويسودها جو من المرح والخِفه، فصديقنا الرحال مستمر في رحلته ويتوهم أضواء في الظلمة تبني له بيتاً دافئاً يسكنه أحبابه.

٢٠. لافتة الطريق:

الأغنيه تبدأ بريثم متحرك يوحي بخطواتٍ متثاقله، صديقنا الرحال أصبح يبحث باللافتات التي على جانبي الطريق بعدما كان لايعبأ إن تاه عن طريقه في الأغنية التاسعه “أطياف الليل”، فقد نسي السبب من وراء الرحله ولم يعد يعبأ سوى بيأسه من انتهاءها، يلعب البيانو دوراً رئيسياً في الصوره الفنيه لهذه الأغنيه المكتوبه على مفتاح G ماينر، فمثلا: قبل غناءه المقطع :” لافتاتُ الطريق منتصبه في الطرقات…لافتات تقود لبلدات كثيره” استخدم شوبرت التكرار الرباعي لنوته معينه وغيّر تحتها الهارموني التابع لها بكوردات مختلفه ومتباينه ليُصور إختلاف وجهات اللافتات المؤديه كل منها إلى بلدة ما؛ بدّل من B ميجر(لافتة اتجاه اليمين) إلى B ماينر (لافتة اتجاه اليسار) وهكذا حتى استقر على الدومننت (D ميجر):

Screen Shot 2016-07-11 at 2.30.03 AM

وفي المقطع الأخير من القصيده “لافتة واحده أراها هناك…مثبتة قبل مجيئي،، طريق واحد عليّ أن أسلكه…الطريق الذي لارجعة منه”

أبدع شوبرت في تصوير أختيار الرحال لافتة واحده من بين اللافتات المختلفه واقترابه منها ليقرأ ماكُتب فيها، فعل ذلك بتكرار واضح لنوتة G تحديداً والتي تمثل النوته الرئيسيه لهذه الأغنيه ولكن على جانبي هذه النوته تتقارب النوتات المتباعده مسافة مسافة في الأبعاد الموسيقيه (semitone) كإقتراب الرحال من اللافته، حتى وصلت الأغنيه نقطة الذوره عند غناءه بالوجهه الأخيره التي على الرحال اتخاذها؛ وجهة الموت

Screen Shot 2016-07-11 at 12.06.50 AM

وهكذا اختتمت آخر ثلاث مازورات في الأغنيه بكورد واحد: ال G الخيار الوحيد الذي لابديل عنه.

٢١. النّزُل:

Screen Shot 2016-07-29 at 7.38.30 PM

عند الاستماع لمقدمة الأغنية المكتوبة بمفتاح F ميجر، نشعر وكأن نهاية الرحله قد أتت وأن الختام قد اقترب. ذلك الشعور الذي عززه شوبرت بكتابة نهاية لحن المقدمه بالكورد الخامس C ميجر الذي يستقر عليه المفتاح هارمونياً استقراراً تاماً، وهذا الاستقرار والصمت الطاغي على الأغنيه يُقربنا أكثر من فكرة الموت. ولكن التناقض بين صوت المغني بكلمات القصيده المشبعة باليأس، وبين الموسيقى المكتوبه بالمفتاح الميجر الايجابي يجعل من هذه الأغنيه طابعاً خاصاً ومُحيراً. من المؤكد أنها ليست النهاية بعد فالرحال قد أكمل رحلته ولم يتوقف.

٢٢. شجاعة:

شجاعه؟ كيف من الممكن أن نتوقع طاقة ايجابيه كهذه بعد كل ذلك اليأس، أهي المكابره :” لايمكنني سماع حديث قلبي…فليس لي آذان تسمع “ أم هي الشعله الأخيره المتبقيه قبل الانتهاء. الأغنيه قصيره وسريعه وتتبدل من A ماينر إلى A ميجر ويغلب عليها علو الصوت وثقة النفس الكبيره.

٢٣. شموس مزيفه:

يشاهد صديقنا الرحال الظاهرة الطبيعيه للشموس الكاذبه التي تظهر في أول الصباح، حيث تنعكس أشعة الشمس على بلورات الثلج لتكوّن وهماً شمسين على جانبي الشمس الحقيقه. شيئاً فشيئاً أصبحت الواقعيه هي المسيطره على فِكر الرحال وأصبح ينبذ الوهم والخيال الذي كان موجوداً في بداية رحلته،كما في القصيده:” آه، إنكم لستم بشمسي…فابتعدوا، وحدقوا بشخص آخر غيري!” شخص آخر لديه الوقت الكافي ليحيا ويستمتع بالأوهام كما كان هو يفعل في بداية رحلته، ولكن الآن فحقيقة واحده هي نُصب عينيه؛ الموت المريح: “ولو أن الثالثة أيضاً تسقط…فسأكون بحال أفضل في الظلام”. غُنيَ هذا البيت بعد صمت وجيز تعود فيه الأغنيه إلى المفتاح الأول المكتوبة عليه؛ A ميجر بعدما تحول إلى A ماينر عندما أنكر الشموس الكاذبه في المقطع الثاني.

٢٤. عازف الأورغن:

إنها الأغنية الأخيره من أغاني رحلة الشتاء، والمشهد الأخير الذي نعيش فيه مع الرحال أحداث رحلته..the-bl10

في مقدمة الأغنيه نستمع إلى لحن ريثمه غير متناسق، يوحي بالعزف المتقطع والناشز نغمياً لألة الأورغن اليدوية، الآلة بدائية الصنع وفيها أوتار ومفاتيح تُعزف بإدارة مقبض في طرفها، اشتهرت كثيراً في القرون السابقه في أوربا الوسطى، يعزف عليها الفقراء أغانٍ فلكلوريه ليجنوا المال منها. صوّر شوبرت دوران المقبض (باللحن السريع في المازوره الثالثه) وتوقف اللحن تدريجياً لانقطاعه ومن ثم استئنافه العزف من جديد بإعادة الدوران، واختار أن يملأ اللحن بنغمات نشازه تشابه صوت الأورغن اليدوي :

Screen Shot 2016-07-15 at 3.25.05 PM

كآخر أغنيه في رحلة الشتاء، كنت أتوقع أجد الرحال يلفظ أنفاسه الأخيره وحيداً، أو أن تختفي شخصية الرحال ويبقى البيانو يرثي له. ولكن في هذه الأغنيه المكتوبه على مفتاح B ماينر (ذلك المفتاح الذي لاعلاقة له ب D ماينر الذي ابتدأت به أول أغنية) نطق الرحال لأول مرة وتحدث مع عازف الأورغن العجوز ليسأله أن يأخذه معه ليعزف أغنياته، يأخذه إلى أين ؟ ماهو المكان الذي يصبح فيه الأورغن اليدوي البشع صوتاً ونغماً، جميلاً ليعزف أغنياته؟ إنها دلالة على عالم سماوي يذهب إليه الأموات.

Reference: